لتبليغ الإدارة عن موضوع أو رد مخالف يرجى الضغط على هذه الأيقونة الموجودة على يمين المشاركة لتطبيق قوانين المنتدى
|
نبض الأنظمة الرسمية للملكة العربية السعودية منتدى يعنى بجميع انظمة الجهات الرسمية في المملكة العربية السعودية |
|
أدوات الموضوع | إبحث في الموضوع |
23-07-2017, 03:47 AM | #1 |
مشرف عـام المنتدى
(ابو سعد) |
الجِنَايَاتِ
بسم الله الرحمن الرحيم كِتَابُ الجِنَايَاتِ ........................................ .......... ................... قوله ـ رحمه الله تعالى ـ: «الجنايات» جمع جناية، وهي لغة: التعدي على البدن، أو المال، أو العرض. واصطلاحاً: التعدي على البدن بما يوجب قصاصاً، أو مالاً، فهي أخص من معناها لغة، فمن اغتابك فهو جانٍ لغة، ومن أخذ مالك فهو جانٍ لغة؛ فالتعدي على العرض أو المال لا يدخل في الجناية في هذا الباب، فالجناية اصطلاحاً إنما هي التعدي على البدن خاصة بما يوجب قصاصاً فيما إذا كان عمداً، أو مالاً فيما إذا كان خطأ. وقد قسم العلماء الجناية إلى ثلاثة أضرب: عمد، وشبه عمد، وخطأ. وفي القرآن الكريم قسمها الله إلى قسمين: عمد، وخطأ، لكن جاءت السنَّة بإثبات شبه العمد، في قصة المرأتين من هذيل اللتين اقتتلتا، فضربت إحداهما الأخرى بحجر، فقتلتها وما في بطنها، فقضى النبي صلّى الله عليه وسلّم بأن دية جنينها غرة، عبد أو وليدة، وأن ديتها على العاقلة[(1)]. فهذا القتل ليس عمداً ولا خطأً، ولكنه وسط بينهما؛ لأنك إن نظرت إلى تعمد الفعل ألحقته بالعمد، وإن نظرت إلى أن الجناية لا تقتل ألحقته بالخطأ، فجعله العلماء مرتبة بين مرتبتين، وسمَّوْه شبه العمد[(2)]، قال في الروض: «روي ذلك عن عمر وعلي رضي الله عنهما»[(3)]، أي: كون الجناية تنقسم إلى ثلاثة أقسام. وَهِيَ عَمْدٌ يَخْتَصُّ الْقَوَدُ بِهِ بِشَرْطِ القَصْدِ، وَشِبْهُ عَمْدٍ،............ قوله: «وهي عمد يختص القود به» القود: القصاص، وسُمي بذلك؛ لأنه يقاد القاتل برُمَّته إلى أولياء المقتول بحبل ويقتل، والمعنى أنه لا قصاص إلا في العمد، أما الخطأ وشبه العمد فلا قصاص فيهما، ودليل ذلك قوله تعالى: {{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالأُنْثَى بِالأُنْثَى}} [البقرة: 178] ، وقال تعالى: {{وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالأَنْفَ بِالأَنْفِ وَالأُذُنَ بِالأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ}} [المائدة: 45] ، وهذا وإن كان مكتوباً على أهل التوراة، لكنَّه شرعٌ لنا، بدليل قوله صلّى الله عليه وسلّم لأنس بن النضر ـ رضي الله عنه ـ حينما كسرت الربيِّعُ بنت النضر ـ رضي الله عنها ـ ثنيَّةَ امرأة من الأنصار، فطالبوا بالقصاص، فقال صلّى الله عليه وسلّم: «كتاب الله القصاص» [(4)]، ومعلوم أن القصاص في السن إنما جاء بما شرع في التوراة، لكن النبي صلّى الله عليه وسلّم جعل ذلك شريعةً لنا. والعمد فيه ثلاثة حقوق: الأول: حق الله، وهذا يسقط بالتوبة. الثاني: حق أولياء المقتول، ويسقط بتسليم نفسه لهم. الثالث: حق المقتول، وهذا لا يسقط؛ لأن المقتول قد قُتل وذهب، ولكن هل يؤخذ من حسنات القاتل، أو أن الله تعالى بفضله يتحمَّل عنه؟ الصواب: أن الله بفضله يتحمل عنه إذا علم صدق توبة هذا القاتل. وقوله: «يختص القود به» أي: العمد، ويختص أيضاً بأنه لا كفارة فيه؛ لأنه أعظم من أن تكفره الكفارة. قوله: «بشرط القصد» أي: قصد الجناية، وقصد المجني عليه، فلا بُد من القصدين، فلو لم يقصد الجناية، بأن حرك سلاحاً معه فثار السلاح وقتله، فهنا ليس بعمد؛ لأنه لم يقصد الجناية، ولو أنه قصد الرمي على شاخص فإذا هو إنسان، فهذا ليس بعمد؛ لأنه لم يقصد شخصاً يعلمه معصوماً فقتله. قوله: «وشبه عمد» هذا النوع الثاني من أنواع الجناية، فهو ليس عمداً محضاً، ولا خطأً محضاً، لكنه بينهما؛ وذلك لأن الجاني قصد الجناية لكن بشيء لا يقتل غالباً، فشبه العمد أن يقصد جناية لا تقتل غالباً، مثل ما لو ضرب إنساناً بالمهفَّة[(5)] فمات، فهذا ليس بعمد محض؛ لأن الجناية لا تقتل، وليس بخطأ؛ لأنه قصد الجناية. وَخَطَأٌ، فَالْعَمْدُ أَنْ يَقْصِدَ مَنْ يَعْلَمُهُ آدَمِيّاً مَعْصُوماً فَيَقْتُلَهُ بِمَا يَغْلِبُ عَلَى الظَّنِّ مَوْتُهُ بِهِ،..... قوله: «وخطأ» هذا النوع الثالث، وهو ألاّ يقصد الجناية، أو يقصد الجناية لكن لا يقصد المجني عليه، مثل أن تنقلب الأم على ابنها وهي نائمة فتقتله، أو يرى صيداً فيرميه فيصيب آدمياً. قوله: «فالعمد أن يقصد من يعلمه آدمياً معصوماً فيقتله بما يغلب على الظن موته به» هذا تعريف العمد. وأفادنا المؤلف بقوله: «أن يقصد» أنه لا بد أن يكون للقاتل قصد، فأما الصغير والمجنون فإن عمدهما خطأ؛ لأنه ليس لهما قصد صحيح، أما المجنون فظاهر، وأمَّا الصغير فهو وإن كان له قصد، لكنه قصد لا يكلف به. وقوله: «من يعلمه آدمياً معصوماً» فإن قصد من يظنه غير آدمي، أو من يظنه آدمياً غير معصوم، فقتل معصوماً فليس بعمد؛ لأنه لم يقصد الجناية على معصوم، مثل أن يرى شاخصاً من بعيد فظن أنه جذع نخلة فرماه، فهذا ليس بعمد؛ لأنه لم يقصد الآدمي. مثال ثانٍ: رأى إنساناً وهو في أرض حرب، فظن أنه حربي فرماه فقتله، فإذا هو غير حربي، فهذا ليس بعمد؛ لأنه لم ينوِ قتل المعصوم. مثال ثالث: لو رمى شخصاً يظن أنه هو المرتد ردَّة لا تقبل معها التوبة، كردَّة من سب الله ـ على المشهور من المذهب ـ لكن تبين أنه غيرُه، فهذا ليس بعمد. مثال رابع: لو رمى شخصاً يظنه الزاني المحصن، والزاني المحصن غير معصوم؛ لأنه يرجم حتى يموت، فتبين أنه ليس هو الزاني المحصن، فهذا ليس بعمد. ويلاحظ أنَّ هذا إذا وافق أولياء المقتول على ذلك، أما لو قالوا: إنّك قصدتَه، فقال: لم أقصده، فالقول قول أولياء المقتول؛ لأن القصد نية خفية، والشرع لا يحكم إلا بالظاهر، والظاهر أنه قصد، ودعواه أنه لم يقصد، أو أنه ظنه غير آدمي دعوى غير مقبولة منه؛ لأننا لو قبلنا ما ادعاه لكان كل من قتل نفساً بغير حق يقول: أنا لم أقصد، أوْ لم أظنه آدمياً معصوماً، أو ما أشبه ذلك. وقوله: «فيقتله» فلو قصد الجناية بما يقتل غالباً لكن المجني عليه سَلِم، بأن ضَرَبه بالفأس على رأسه يريد قتله حتى انفلق، لكنه عُولج حتى برئ فهذا ليس بقتل عمد؛ لأنه لا بد أن يقتله. وقوله: «بما يغلب على الظن موته به» هذا أهم، أي: أن تكون الجناية بما يغلب على الظن أنها تقتل، مثل أن يضربه بالساطور على رأسه، وقال: أنا ما ظننت أنه يموت! فهذا لا يقبل؛ لأن هذا يغلب على الظن أنه يموت به. ولو ضربه بالمهفة، وقُدِّر أنه نائم ففزع ومات، فليس بعمد؛ لأن المهفة لا يغلب على الظن أن يموت بها، فانتبه للشروط التي هي الضابط في قتل العمد؛ لأجل أن تنزل عليها الصور التي ذكرها المؤلف؛ لأن من الصور التي ذكرها المؤلف صوراً لا تنطبق على هذه القاعدة، فينظر فيها، ثم ذكر المؤلف تسع صور فقال: «مثل أن يجرحه بما له مَوْرٌ في البدن» هذه الصورة الأولى «أن يجرحه» الفاعل هو القاتل أو الجاني، والمفعول به هو المجني عليه، أي مثل أن يجرح الجاني المجني عليه. مِثْلُ أَنْ يَجْرَحَهُ بِمَا لَهُ مَوْرٌ فِي الْبَدَنِ، أَوْ يَضْرِبَهُ بِحَجَرٍ كَبِيرٍ وَنَحْوِهِ،......... وقوله: «بما له مور» ، فسَّره في الروض[(6)] فقال: أي: «نفوذ في البدن» مثل لو بطَّه برأس الدبوس فهذا له مور في البدن، وهو عند المؤلف عمد؛ لكنه على القاعدة لا ينطبق على العمد؛ لأن القاعدة: «أن يقتله بما يغلب على الظن موته به» وهذا لا يغلب على الظن موته به، اللهم إلاّ إذا بطَّه في مقتل، كما لو بطَّه في الفؤاد، أو في الوريد، أو ما أشبه ذلك، أما لو بطَّه في مكان متطرف من البدن، فليس هذا بعمد في الواقع، وما أكثر الجروح التي تصيب الرِّجل، من مسمار، أو زجاجة، أو نحو ذلك، ولا يقول الناس: إن هذا يقتل. فلو قال قائل: هو لا يقتل، ولكنه تعفن وفسد شيئاً فشيئاً، حتى قضى عليه، فماذا نقول؟ نقول: العبرة بالأصل، وهنا ما مات من الجرح نفسه، ولكنه مات من التسمم وفساد الجرح، فإن جَرَحَهُ بما له مور في البدن، فقيل له: داوِ الجرح؛ حتى لا ينزل الدم، فقال المجني عليه: لا، بل سأدعه ينزل حتى يُقتل الرجل، فالمذهب أن هذا عمد من الجاني، ويقولون: «وإن لم يداوِ مجروحٌ جرحه»، فإن قال الجاني: أنا سأداويك على نفقتي الخاصة، فقال المجني عليه: لا، بل دعه يثعب دماً حتى تُقتل، فهنا يرون أنه عمد، لكن الحقيقة أن هذا سفه من المجني عليه؛ لأن هناك أشياء نعلم أنها إذا عولجت برئت، فأنت الذي جنيت على نفسك، فهذا لا نُمكِّنه من أن يُبقي جرحه يثعب دماً حتى يموت. الصورة الثانية: قوله: «أو يضربه بحجر كبير ونحوه» مثل ما لو ضربه بمطرقة كبيرة، وقال: أنا لا أدري أنها تقتل، فنقول: هذا غير صحيح، بل هذا مما يقتل غالباً فيُقْتل به، حتى لو ضربه بها في غير مقتل، ولهذا صرح في الروض[(7)] فقال: «ولو في غير مقتل» فمات فإنه عمد يُقتل به. وأفادنا المؤلف بقوله: «أو يضربه بحجر كبير» أنه لو ضربه بحجر صغير فهو شبه عمد، إلا إذا قتله بحجر صغير في مقتل، مثل إن ضربه على الكِلى، أو على الكبد، أو ما أشبه ذلك مما يكون سبباً للقتل، فهنا يكون ذلك عمداً. ومعرفة كون الحجر يقتل أو لا يقتل يرجع في ذلك إلى العرف، فمتى قالوا: إن هذا الحجر يقتل لو ضرب به الإنسان ولو في غير مقتل، فيكون القتل بهذا الحجر عمداً. مسألة: لو قتله بسوط من كهرباء؟ فيُنظر إن كان من طاقة كبيرة تقتل غالباً فهو عمد، وإن كان من طاقة صغيرة لا تقتل غالباً فليست بعمد، والطاقة الصغيرة مثل مائة وعشرة، والطاقة الكبيرة مثل مائتين وعشرين، أو ثلاثمائة ونحوه. أَوْ يُلْقِيَ عَلَيْهِ حَائِطاً، أَوْ يُلْقِيَهُ مِنْ شَاهِقٍ، أَوْ فِي نَارٍ، أَوْ مَاءٍ يُغْرِقُهُ وَلاَ يُمْكِنُهُ التَّخَلُّصُ مِنْهُمَا، أَوْ يَخْنِقَهُ أَوْ يَحْبِسَهُ وَيَمْنَعَ عَنْهُ الطَّعَامَ أَوْ الشَّرَابَ فَيَمُوتَ مِنْ ذلِكَ فِي مُدَّةٍ يَمُوتُ فِيهَا غَالِباً،..................... قوله: «أو يلقي عليه حائطاً» بأن قال له: اجلس تحت هذا الجدار واستظل به، فجاء وجلس، وذهب الآخر من وراء الجدار وألقاه عليه، فيكون هذا عمداً؛ لأنه يقتل غالباً. ولو ألقى عليه سقفاً، فيُنظر فيه، فإن كان سقفاً مما يقتل غالباً فإنه عمد، وإن كان مما لا يقتل غالباً فليس بعمد. قوله: «أو يلقيه من شاهق» أي: مرتفع، كأن يصعد شخصٌ وآخرُ على منارة، ثم يقول له: تعال وانظر إلى الأرض، أقريبة هي أم بعيدة؟ فلما نظر الآخر دفعه وألقاه إلى الأرض، فهذا عمد، فإن قال: أنا لا أدري أنه سيموت، قلنا: إنَّ هذا مما يقتل غالباً، فإن رماه من مكان أبعد فإنه عمدٌ من باب أولى، مع أنهم يقولون: إن الهر إذا سقط من مكان قريب مات، ولو سقط من مكان بعيد لم يمت، لكن الآدمي بخلاف الهر. قال في الروض[(8)]: «الثالث من الصور أن يلقيه بجُحر أسد أو نحوه»، جحر الأسد هو مكانه الذي يأوي إليه، فلو أن إنساناً ألقى شخصاً في جحر أسد فأكله، فإنه يكون عمداً. فإن قال الذي ألقاه في الجحر: أليس إذا اجتمع متسبِّب ومباشر فالضمان على المباشر؟ فالجواب نعم، ولكن إذا تعذر إحالة الضمان على المباشر فيكون على المتسبب، وهنا يتعذر إحالة الضمان على المباشر، وهو الأسد فيكون الضمان على المتسبب. قال في الروض[(9)]: «أو مكتوفاً بحضرته»، أي: بحضرة الأسد، ومعنى مكتوفاً ـ أي: مربوطة يداه إلى كتفيه ـ فإنه في هذه الحال يكون عمداً، وقد ذكروا قصة جحدر بن مالك حين أخذه الحجاج بن يوسف الثقفي في جناية ـ زعم أنها جناية ـ فقال له: لن أقتلك، ولكن سآتي بأسد وأحبسه عن الطعام خمسة عشر يوماً، وسأعطيك سيفاً، وأقيد يدك الأخرى، فأجاع الأسد لمدة خمسة عشر يوماً، ثم أطلقه وأطلق جحدر بن مالك، فانقضّ الأسد على جحدر من شدة الجوع، لكن جحدر رفع السيف أثناء انقضاض الأسد، فوضعه في نحره ومات الأسد ولم يمت جحدر، ذكر هذا في حواشي مغني اللبيب، والقصة طويلة، والشاهد أنه إذا ألقاه مكتوفاً بحضرة الأسد فهو عمد. لكن لو فعل مثل قصة جحدر، فهل يكون عمداً مع أنه أعطاه السيف؟ في الحقيقة لولا أنه كان قوياً، وشجاعاً، وقوي البدن أيضاً، لما قدر على الأسد الذي قد جُوِّع لمدة خمسة عشر يوماً، ثم أطلق. الرابعة: قوله: «أو في نار أو ماء يغرقه ولا يمكنه التخلص منهما» فإن ألقي في نارٍ أو ماءٍ ويمكنه التخلص منهما فهدر، وليس بعمد. الخامسة: قوله: «أو يخنقه» أي: يكتم نفسه، سواء بحبل، أو بتثبيت مادة تكتم النفس، أو ما أشبه ذلك. فالخنق يعتبر عمداً، والغريب أنه قال في الروض[(10)]: «أو يعصر خصيتيه» فهل هذا من الخنق؟ نعم. ولو وضع يده على فمه دون أنفه فليس بخنق؛ لأنه يمكنه التنفس، وكذلك لو وضع يده على أنفه دون فمه فليس بخنق، لكن لو وضع يده على أنفه وفمه فهذا خنق. السادسة: قوله: «أو يحبسه ويمنع عنه الطعام أو الشراب فيموت من ذلك في مدة يموت فيها غالباً» فإذا حبسه ولم يعطه ماءً ولا طعاماً، حتى مات في مدة يموت فيها غالباً، فهذا عمد، ولهذا قال النبي صلّى الله عليه وسلّم: «دخلت النار امرأة في هرة حبستها حتى ماتت لا هي أطعمتها ولا هي سقتها...» [(11)] فهذا من صور العمد. والمدة التي يموت فيها غالباً تختلف في الحر والبرد، فيرجع في ذلك إلى أهل الخبرة، فإذا قالوا: إن بقاء الإنسان في هذا المكان، وفي هذا الزمان، يعتبر مدة يموت في مثلها غالباً قلنا: إنه عمد. فإذا حبسه ومنعه عن الطعام والشراب في مدة يموت فيها غالباً، فهذا من صور العمد؛ لأن الإنسان إذا حبس عن الطعام والشراب فإنه يموت، وقال بعض أهل العلم: «ومثله لو حبسه في الشمس في أيام الصيف حتى مات، أو حبسه في ليالي البرد في أيام الشتاء فمات، وهذا صحيح، وهذه الصورة وإن كانوا لم يقولوها لكننا ننزلها على الضابط. قال في الروض[(12)]: «بشرط تعذر الطلب عليه وإلاّ فهدر» أي: بشرط أن يتعذر الطلب على المحبوس، فإن كان لا يتعذر عليه الطلب، بحيث لو طلب الطعام أو الشراب لوجده، فليس بعمد وهدر، كما قلنا فيما لو ألقاه في نارٍ أو ماءٍ يغرقه ويمكنه التخلص. أَوْ يَقْتُلَهُ بِسِحْرٍ، أوْ بِسُمٍّ، أَوْ شَهِدَتْ عَلَيْهِ بَيِّنةٌ بِمَا يُوجبُ قَتْلَهُ، ثُمَّ رَجَعُوا، وَقَالُوا: عَمَدْنَا قَتْلَهُ، وَنَحْوَ ذلِكَ، وَشِبْهُ الْعَمْدِ أَنْ يَقْصِدَ جِنَايَةً لاَ تَقْتُلُ غَالِباً وَلَمْ يَجْرَحْهُ بِهَا، كَمَنْ ضَرَبَهُ فِي غَيْرِ مَقْتلٍ بِسَوْطٍ، أَوْ عَصَا صَغِيرَةٍ،................ السابعة: قوله: «أو يقتله بسحر» والسحر عبارة عن عزائم، وعقد، ورقى، وأدوية، يتوصل بها إلى ضرر المسحور في بدنه، أو عقله. فإذا وضع رجل السحر لشخص حتى أثَّر فيه ومات، فإن هذا يكون قتلاً عمداً؛ لأن السحر يقتل مثله غالباً، ولكن تقدم لنا أن الساحر يجب أن يقتل حداً، فهذا الساحر وجب قتله لسببين: الأول: قتله لحقِّ الله ـ عزّ وجل ـ إذا لم نقل بكفره، الثاني: قتله لحق أولياء المقتول، فهنا تعارض عندنا حقان حق أولياء المقتول، وحق الله عزّ وجل، فأيهما يقدم؟ الجواب: يقدم حق أولياء المقتول، فإذا قال أولياء المقتول: ما دام أن الرجل سيقتل فنحن نريد الدية فلهم ذلك، وإن قالوا: نريد أن نقتله ونشفي صدورنا منه فلهم ذلك. وعلى هذا فنقول لأولياء المقتول بالسحر: إن شئتم أعطيناكم هذا الساحر فاقتلوه أنتم قصاصاً، وإن شئتم قَتَلَه وليُّ الأمر حداً، ولكم الدية. فإن سحره حتى ذهب بعقله فهنا عليه الدية، كما سيأتي ـ إن شاء الله ـ في دية المنافع. الثامنة: قوله: «أو بِسُمٍّ» أي: أو يقتله بسُمٍّ، وذلك بأن يضع له السُّم في ماء، أو في طعام ويسقيه إياه وهو لا يعلم، فإن علم أن فيه سُمّاً وأكله، أو شربه، فهو هدر، لكن إن كان لا يعلم فيكون الذي وضع له السم قاتلاً عمداً. فإن قتله بزجاج وضعه داخل الطعام فإنه عمد؛ لأنه يقتل غالباً، حتى أن بعض الناس إذا لم يقتل الهرة بالسم قتلها بالزجاج؛ لأنه أحياناً إذا وُضع له السم وأكله تقيأه وسلم منه، لكن إن وضع له الزجاج، فإن تقيأه لم يسلم، وإن ابتلعه لم يَسْلم. التاسعة: قوله: «أو شهدت عليه بينة بما يوجب قتله» لم يقل: بما يبيح قتله، وبينهما فرق. قوله: «ثم رجعوا وقالوا: عمدنا قتله» فإذا شهدوا بما يوجب قتله، كأن شهدوا بأنه زنا وهو محصن ـ وزِنا المحصن يوجب الرجم ـ فحَكَم القاضي بشهادتهم، ورُجم هذا المشهود عليه، ثم رجعوا وقالوا: نحن راجعون عن شهادتنا، ومتعمدون لقتله، فهنا يكون قتله عمداً. وأما لو شهدوا بما يبيح قتله ولا يوجبه فإنه ليس بعمد؛ لأنه يمكنه التخلص من ذلك، مثل أن يشهدوا عليه بردة تقبل فيها التوبة؛ لأنه من الممكن أن المشهود عليه يتخلص بالعودة إلى الإسلام. مثال آخر: شهدوا عليه بأنه جحد فريضة الصلاة، فهذه ردة تبيح القتل ولا توجبه، فمن الجائز أن يقول الرجل: أنا تبت إلى الله، وأُقر إقراراً من قلبي بأن الصلوات الخمس واجبة، فهنا يرتفع القتل عنه. قوله: «ونحو ذلك» الإشارة في «ذلك» إلى ما سبق، أي: ونحو هذه الصور، فالمسألة ليست محصورة، والواجب أن نرجع إلى الضابط، ونقول في العمد: «هو أن يقصد من يعلمه آدمياً معصوماً فيقتله بما يغلب على الظن موته به». قوله: «وشبه العمد أن يقصد جناية لا تقتل غالباً» فالعمد وشبه العمد يشتركان في القتل، لكنهما يختلفان في أن العمد تقتل الجناية فيه غالباً، وشبه العمد لا تقتل غالباً، لكن اشترط المؤلف شرطاً فقال: «ولم يجرحه بها» وقيده بهذا القيد؛ لأنه إن جرحه بها ولو كانت لا تقتل غالباً صار عمداً، مثاله: قول المؤلف: «كمن ضربه في غير مقتل بسوط، أو عصا صغيرة» فإن ضربه في غير مقتل، كأن ضربه في طرف، أو على رأسه بسوط، أو عصا صغيرة، فنقول: هذا ليس بعمد بل شبه عمد، ودليله قصة المرأتين من هذيل اللتين اقتتلتا، فرمت إحداهما الأخرى بحجر فقتلتها وما في بطنها، فقضى النبي صلّى الله عليه وسلّم: «أن دية المرأة على العاقلة، وقضى بدية الجنين غرة عبد أو أمة» [(13)] قال أهل العلم: هذا الحديث هو الأصل في إثبات شبه العمد؛ لأن الجناية متعمدة، لكن الآلة التي حصل بها القتل لا تقتل غالباً. أَوْ لَكَزَهُ، وَنَحْوَهُ[(14)]، وَالخَطَأُ أَنْ يَفْعَلَ مَا لَهُ فِعْلُهُ، مِثْلُ أَنْ يَرْمِيَ مَا يَظُنُّهُ صَيْداً، أَوْ غَرَضاً، أَوْ شَخْصاً، فَيُصِيبَ آدميّاً لَمْ يَقْصِدْهُ، وَعَمْدُ الْصَّبِيِّ وَالْمَجْنُونِ. قوله: «أو لكزه» إذا لكزه في مقتل فإنه عمد؛ لأنه يقتل غالباً، وموسى عليه السلام وكز القبطي فمات، قال تعالى: {{فَوَكَزَهُ مُوسَى فَقَضَى عَلَيْهِ}} [القصص: 15] ، وكان موسى عليه السلام رجلاً شديداً قوياً، لمّا رأى الإسرائيلي يقاتل القبطي، وكزه فقضى عليه، ومات، ولهذا قال: {{رَبِّ إِنِّي قَتَلْتُ مِنْهُمْ نَفْسًا فَأَخَافُ أَنْ يَقْتُلُونِ}} [القصص: 33] . والفرق بين العمد وشبه العمد: أولاً: يشتركان في قصد الجناية، ويختلفان في الآلة التي حصلت الجناية بها. ثانياً: العمد فيه قصاص، وشبه العمد ليس فيه قصاص. ثالثاً: دية العمد على القاتل، ودية شبه العمد على العاقلة. رابعاً: العمد ليس فيه كفارة، وشبه العمد فيه كفارة. أما التغليظ في الدية فإن المشهور من مذهب الحنابلة أنهما سواء. قوله: «والخطأ أن يفعل ما له فعله» (ما) اسم موصول بمعنى الذي، وإن شئت فقل: إنها نكرة موصوفة، أي: أن يفعل شيئاً له فعله. قوله: «مثل أن يرمي ما يظنه صيداً» كرجل أراد أن يرمي الصيد فأصاب إنساناً، فَرَمْيُ الصَّيْدِ له فِعْلُهُ، لكن إن كانت الحكومة قد منعت ذلك فليس له فعله؛ لأن الله أوجب علينا طاعة ولي الأمر في غير المعصية، ومنع الصيد في زمنٍ معين أو مكان معين ليس بمعصية، فيجب علينـا طـاعـتـه فيـه، وأنا أعتبر أن منع الدولة من المنع الشرعي الواجب اتباعه إذا لم يكن معصية، فإذا رمى صيـداً لـم نُمنع منه شرعاً فأصاب إنساناً فإنه خطأ، والخطأ هنا في القتل لا في الآلة؛ لأن الآلة تقتل غالباً قوله: «أو غرضاً» الغرض هو الهدف، فلو نصب غرضاً يرمي إليه، فلما أطلق الرصاص أصاب إنساناً ولم يقصده، فإنه يكون خطأ، وتوجد مراماة بالأحجار، بأن ينصبوا لهم نِيشاناً أي: خشبة يغرزونها في الأرض، ثم يترامون عليها، وقد وقعت قصة في ذلك، وهي أن أحدهم لمَّا أطلق الحجر، فإذا بالثاني قريب مما يُسمَّى بالنِّيشان، فضربه على رأسه وتوفي، فهذا القتل خطأ، حتى لو كان الحجر الذي رُمي به كبيراً فإنه خطأ؛ لأنه لم يقصد. وعلم من قوله: «أن يفعل ما له فعله» أنه لو فعل ما ليس له فعله بجناية تقتل غالباً فهو عمد، مثال ذلك: أن يرمي شاة فلان فيصيبه هو، فعلى رأي المؤلف يكون عمداً. مثال آخر: أراد أن يرمي الرطب على النخلة فأصاب صاحب الثمرة، فيكون عمداً على ظاهر كلام المؤلف. لكن هذا الظاهر فيه نظر، بل نقول: إذا فعل ما ليس له فعله فأصاب آدمياً، فإما أن يكون ما قصده مساوياً للآدمي أو دونه، فإن كان مساوياً للآدمي فهو عمد بلا شك، مثل أن يرمي شخصاً يظنه فلاناً معصوم الدم، فأصاب شخصاً آخر، وقال: أنا ما علمت أن هذا فلان، كما لو أصاب أخاه ـ أي: أخا القاتل ـ فإنه سيندم؛ لأنه لم يُرِد قتله، لكنه أراد قتل معصوم مساوٍ للمقتول، فالحرمة واحدة، فنقول: هذا أراد قتل مسلم فأصاب مسلماً، فهو قتل عمد؛ لأنه أراد هتك حرمة المؤمن. ولو أن رجلاً رمى الرطب على النخلة ليأكل منها فأصاب إنساناً نقول: القتل عمد على المذهب! لكن الصحيح أنه ليس بعمد؛ لأنه لا شك أن هذا الرجل لو علم أن على النخلة شخصاً معصوماً لم يقتله، وحرمة التمر ليست كحرمة الآدمي، ولو أراد قتل شاة فقتل صاحبها فالقتل على كلام المؤلف عمد، والصواب أنه ليس بعمد؛ لأن حرمة الشاة ليست كحرمة الآدمي. فالصواب أن يقال: أن يفعل ما له فعله فيصيب آدمياً، أو يفعل ما ليس له فعله فيصيب من حرمته دون حرمة الآدمي. فإن رمى معصوماً غير مسلمٍ فأصاب مسلماً فالظاهر أنه يعتبر عمداً، صحيحٌ أنه لا يقتل به؛ لأنه لا يقتل مسلم بكافر، لكن الحرمة والاحترام للمعصوم كالاحترام للمسلم. وقد يقال ليس بعمد؛ لأن حرمة غير المسلم ليست كحرمة المسلم. قوله: «أو شخصاً» أي: شخصاً مباح الدم، كزانٍ محصن وحربي، وما أشبه ذلك. قوله: «فيصيب آدمياً لم يقصده» وقد سبق. قوله: «وعمد الصبي والمجنون» هذا النوع الثاني من الخطأ، فإذا تعمد الصبي أو المجنون القتل فهو خطأ، أما المجنون فظاهر؛ لأن من شروط العمد القصد، والمجنون لا قصد له. وأما الصبي ـ والمراد به هنا من دون البلوغ، كمن عمره أربع عشرة سنة وعشرة أشهر، وكمن عمره خمس عشرة سنة إلاّ ثلاثة أيام ـ فعمده خطأ؛ لحديث: «رفع القلم عن ثلاثة: عن الصبي حتى يبلغ، وعن المجنون حتى يفيق، وعن النائم حتى يستيقظ»[(15)]. والنائم يمكن أن يقتل، فبعضهم يمشي وهو نائم، وذُكر لنا أن بعض الناس وهو نائم يخرج إلى الوادي شمال البلد، وهو واضع رأسه على كتفه، وبعضهم يقوم يشرب ثم يرجع وهو لا يعلم، فعمد النائم ـ أيضاً ـ يعتبر من الخطأ؛ لأنه لم يقصد، ومن شروط العمد القصد. وعمد السكران على المذهب عمد؛ لأنه لا يعذر به، وكل أقوال السكران وأفعاله معتبرة، ولهذا يقع طلاقه، ويصح إقراره، وعتقه، وإيقافه، فلو أن سكراناً قال: جميع زوجاتي طوالق، وجميع عبيدي أحرار، وجميع أملاكي وقف، وفي ذمتي لفلان ألف مليون! فالمذهب أنه يصح، فتطلق جميع زوجاته، ويصبح عبيده كلهم أحراراً، وماله كله وقفاً، ويلزمه لفلان ألف مليون. لكن الصحيح أن السكران لا يؤاخذ بأقواله فلا يقع عتقه، ولا طلاقه، ولا وقفه، ولا إقراره. كذلك أفعال السكران موضع خلاف، فمن العلماء من قال: يؤاخذ بأفعاله؛ لأن الفعل أقوى من القول؛ إذ إن كون السكران يجترئ على الفعل معناه أن هناك إرادة بخلاف القول، وعلى هذا القول يكون قتله عمداً. لكن الصحيح أنه لا يؤاخذ بفعله أيضاً، إلاّ إذا قال: إنه سيسكر لأجل أن يقتل، يعني أنه عرف أنه لو ذهب إلى فلان وقتله وهو صاحٍ أنه سيقتل به، فأراد أن يسكر لأجل أن يقتل هذا الرجل، فهذا لا شك أنه عمد؛ لأنه قصد الجناية قبل أن يسكر. والفرق بين الخطأ وقسيميه: يشترك الخطأ وشبه العمد في أمور، ويفترقان في أمور، فيشتركان في التالي: أولاً: أنه لا قصاص فيهما. ثانياً: أن فيهما الدية. ثالثاً: أن الدية على العاقلة. ويختلفان في التالي: أولاً: أن شبه العمد قصد، والخطأ ليس بقصد. ثانياً: أن دية شبه العمد مغلظة، ودية الخطأ غير مغلظة. ثالثاً: أن شبه العمد فيه إثم، والخطأ لا إثم فيه. ويفارق الخطأ العمد في التالي: أولاً: أن العمد فيه قصاص، والخطأ لا قصاص فيه. ثانياً: العمد ديته مغلظة، والخطأ مخففة ثالثاً: العمد ديته على القاتل، والخطأ على العاقلة. رابعاً: العمد لا كفارة فيه، والخطأ فيه كفارة. خامساً: العمد فيه إثم عظيم، والخطأ لا إثم فيه. وأنا أدعو إلى معرفة الفوارق والجوامع؛ لأن من أهم ما يكون أن يعرف الإنسان الفروق بين مسائل العلم، والوجوه التي تجتمع فيه، حتى يميز ويفرق. * * * فَصْلٌ تُقْتَلُ الجَمَاعَةُ بِالوَاحِدِ، وَإِنْ سَقَطَ الْقَوَدُ أَدَّوْا دِيَةً وَاحِدَةً، .................. قوله: «تقتل الجماعة بالواحد» أي: إذا اجتمع جماعة على قتل إنسان فإنهم يقتلون جميعاً، مثاله: خمسة اجتمعوا على قتل رجل، فيُقتلون جميعاً، فإن قيل: ما الدليل، وما التعليل؟ لأن ظاهر الحكم في هذه المسألة أنه حكم جائر، فكيف نقتل خمسة بواحد؟! أما الدليل فهو ما ورد عن عمر ـ رضي الله عنه ـ في جماعة اشتركوا في قتل رجل من أهل اليمن، فأمر عمر ـ رضي الله عنه ـ أن يقتلوا جميعاً، وقال: لو تمالأ عليه أهل صنعاء لقتلتهم به[(16)]، أي: لو اتفق أهل بلد كامل على قتله لقتلتهم به، وعمر ـ رضي الله عنه ـ ممن اشتهر بالعدالة، ومع ذلك قتلهم جميعاً به، فالحُكْم ليس بجَور. أما من حيث النظر، فلأن هؤلاء الجماعة قتلوا نفساً عمداً، وتجزئة القتل عليهم مُحال؛ إذ لا يمكن أن نقتل كل واحد خمس قتلة، والقتل لا يمكن أن يتبعَّض، ورفع القتل عنهم ظلم للمقتول؛ لأنهم أعدموه وأزهقوا نفسه، فكيف لا تزهق أنفسهم؟! فلهذا كان النظر والأثر موجبين لقتل الجماعة بالواحد، لكن لا بد من شرط، وهو أن يتمالؤوا على قتله، أو يصلح فعل كل واحد للقتل لو انفرد. مثال التمالؤ: قالوا: هذا الرجل عنده مال كثير، سنقتله ونأخذ ماله، فقال أحدهم: اجلس أنت في هذا المكان مراقباً، وأنت في هذا المكان الآخر مراقباً، وأحدنا يشحذ السكين، وأحدنا يقتله، فهنا تمالؤوا على قتله. مثال ما لم يتمالؤوا، لكن فِعْل كل واحد يصلح لقتله: كأُناس أرادوا أن يهجموا على شخص لقتله وأخذ ماله، دون أن يطلع أحدهم على الآخر، ولم يعلم أحدهم بالآخر، لكن قدَّر الله ـ تعالى ـ أن يأتوا جميعاً ليلاً، وكل شخص رمى هذا الرجل، فأحدهم أصابه في بطنه، والآخر في صدره، والآخر في ظهره، فمات الرجل فهنا يقتلون جميعاً؛ لأن فعل كل واحد منهم يصلح للقود لو انفرد. ولو جرحه أربعة بدون اتفاق وخامس لكزه، فهنا يقتل الأربعة، والخامس الذي لكزه لا يُقتل؛ لأن فعله لا يصلح للقتل لو انفرد. قوله: «وإن سقط القود» أي: سقط القصاص لأي سبب من الأسباب. قوله: «أدوا دية واحدة» مثل أن قال أولياء المقتول: نحن لا نريد قتل هؤلاء، لكن نريد الدية، فيلزمهم دية واحدة، فإذا كانوا عشرة والدية مائة من الإبل فعلى كل واحد منهم عشر من الإبل، والفرق بين الدية والقتل أن الدية تتجزأ، فيمكن أن نُحمِّل كل واحد جزءاً منها، لكن القتل لا يتجزأ. ثم ذكر المؤلف مسائل تشبه الاشتراك، وليست اشتراكاً، فقال: وَمَنْ أَكْرَهَ مُكَلَّفاً عَلَى قَتْلِ مُكَافِئِهِ فَقَتَلَهُ فَالقَتْلُ أَوِ الدِّيَةُ عَلَيْهِمَا،.......... «ومن أكره مكلفاً على قتل مكافئه فقتله فالقتل أو الدية عليهما» «مَنْ» مِن صيغ العموم؛ لأنها اسم شرط، لكنها ليست على عمومها، وإنما المراد بها من أَكره ممن يُقاد لو تعمد؛ ليخرج بذلك إكراه الصبي والمجنون؛ لأن الصبي أو المجنون لو أكره أحدهما مكلفاً على قتل مكافئ لم يكن عليه شيء؛ لأن عمده هو بنفسه خطأ، فَعَلِمنا أن قول المؤلف: «مَنْ أكره» ليس على عمومه، وإنما هو من باب العام الذي أريد به الخصوص، وهل لذلك نظير في اللغة العربية، أو في الشرع؟ الجواب: نعم، وهو كثير، قال الله تعالى عن عادٍ: {{تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّهَا}} ومعلوم أنها ما دمرت السماء، ولا الأرض، ولا المساكن، قال تعالى: {{فَأَصْبَحُوا لاَ يُرَى إِلاَّ مَسَاكِنُهُمْ}} [الأحقاف: 25] . وقال تعالى: {{الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ}} [آل عمران: 173] ، ومعلوم أن القائل واحد، وأن الجامعين لهم ليسوا كل الناس. وقوله: «مكلفاً» هو البالغ العاقل. وقوله: «على قتل مكافئه» أي: على قتل شخص مكافئ للقاتل المُكرَه، وستأتي إن شاء الله المكافأة في باب شروط القصاص. وقوله: «فقتله» أي: المكرَه قَتَلَ من أكرِه على قتله. وقوله: «فالقتل أو الدية عليهما» القتل أي: القصاص، و «أو» للتنويع لا للتخيير. فالقتل إذا اختير، أو الدية إن عفي عنه. وقوله: «عليهما» أي: على القاتل ومن أكرهه؛ لأن المكرِه ملجئ، والمكرَه أراد قتل غيره لاستبقاء نفسه، فكل منهما ظالم، فصار القود أو الدية عليهما. وقيل: الضمان على المكرَه وحده؛ لأنه ليس له الحق في أن يقتل غيره لاستبقاء نفسه، فيقول للذي أكرَهه مثلاً: لا أقتله أبداً، وافعل ما شئت، ولو أن تقتلني، أما أن أتعمد أن أقتل نفساً محرّمة لمجرّد أنك أكرهتني فهذا لا يمكن، وليس هذا من حق الله الذي عفا الله عنه عند الإكراه، فهذا حق آدمي، ولهذا فهذا القول قوي جداً. وقيل: إن الضمان على المكرِه؛ لأن المكرِه ملجئ، والمكرَه مضطر، ولولا إكراه ذلك ما قتله، ولكن هذا التعليل بالنسبة إلى تعليل القول بأنه على المكرَه ضعيف جداً لا يقابله. فالصواب: أنه إما على المكرَه، أو عليهما جميعاً، وحينئذٍ ينظر القاضي إلى ما هو أصلح للناس في هذه المسألة، فإن قتلهما جميعاً، ورأى أن المصلحة تقتضي ذلك فليفعل. وهذا ما لم يكن المكرَه كآلة، فإن كان المكره كآلة فإن الدية أو القود على المكرِه، ومعنى قولنا: «كآلة» مثل أن يأخذ الرجلُ رجلاً نشيطاً، فيمسكه، ويضرب به رجلاً آخر، فمات فهنا القود أو الدية على القاتل؛ لأن هذا صار كالآلة لا يستطيع أن يتخلّص. مسألة: إذا قال شخص لآخر: اقتل نفسك وإلاّ قتلتك، فما الحكم؟ الجواب: قال فقهاء الحنابلة: إنه إكراه، وعلى هذا فالضمان على المكرِه، وقيل ليس بإكراه؛ لأن هذا الذي قتل نفسه لا يستفيد استبقاء نفسه لو تركها، فلا يستفيد من قتل نفسه شيئاً، وما دام أنه مقتول فليكن القتل بيد غيره، فهذا ليس من باب الإكراه. وعلى كل حال فهذه المسائل الخلافية التي ليس فيها دليل واضح يفصل بين الأقوال، ينبغي أن يعطى الحاكم فيها سعةً في الحكم بما يرى أنه أصلح للخلق؛ لأن هذه المسائل ما دام أن فيها سعة في أقوال المجتهدين من أهل العلم، والناس يحتاجون إلى سياسة تصلحهم، فلا حرج على القاضي إذا اختار أحد الأقوال لإصلاح الخلق. ولذلك يذكر عن بعض السلف أنه قال لابنه مرة: افعل كذا وكذا في حكم من الأحكام، فلم يفعل، فقال الوالد: افعل وإلاّ أفتيتك بقول فلان، وهو قول أصعب وأشق. فهذه المسائل التي مصدرها الاجتهاد، وليس فيها نص يلزم الإنسان بأن يأخذ به فلينظر إلى ما يصلح الخلق. وقوله: «على قتل مكافئه» يحتاج إلى قيد، وهو أن يكون مكرهاً على قتل معين، بأن يقول له: اقتل فلاناً وإلاّ قتلتك، وأما لو قال: اخرج إلى السوق، وأتني برأس رجلٍ من المارَّة، فإن لم تفعل قتلتك، فذهب وقتل شخصاً في السوق، فهذا غير معين، فالقصاص هنا ـ على المذهب ـ يكون على القاتل؛ لأنه لم يكرهه على قتل معين، والفرق أن المكرَه في قتل المعين مُلْزَم بهذا الشخص بعينه، أما ذاك فما ألزم بهذا الشخص المعين، فهو الذي اختار أن يقتل فلاناً دون فلان. وَإِنْ أَمَرَ بِالْقَتْلِ غَيْرَ مُكَلَّفٍ أَوْ مُكَلَّفاً يَجْهَلُ تَحْرِيمَهُ، ............. قوله: «وإن أمر بالقتل غير مكلف» لو قال للصغير: اذهب إلى ذلك الرجل النائم واقتله، ففعل ذلك الصغير ما أُمِر به وقتل الشخص، فهنا الضمان على الآمر؛ لأن عندنا متسبباً ومباشراً، والمباشر غير مكلف، ومثله لو أمر مجنوناً بقتل شخص فقتله، فالضمان على الآمر. قوله: «أو مكلفاً يجهل تحريمه» أي: أمر شخصاً بالغاً عاقلاً، لكنه لا يدري أن القتل حرام، وليس المعنى أنه يجهل تحريم القتل بالنسبة إلى هذا المعين، لكنه يجهل تحريم القتل مطلقاً، مثل أن يكون رجلاً أسلم قريباً. مثاله: رجل جاء بخادمٍ من بلدٍ بعيد، لا يدري عن الإسلام شيئاً، وتعطلت عليهم السيارة في الصحراء، وكادا يهلكان من الجوع، فوجدا رجلاً سميناً، فقال له هذا الرجل الذي يعلم تحريم القتل: نحن الآن جُعْنا، وهذا رجل شاب سمين، ولحمه سيكون طرياً، اذهب فاذبحه حتى نأكله، فذهب الآخر الذي لا يعلم تحريم القتل فذبحه وأتى بأعضائه، فهنا الضمان على الآمر؛ لأن المباشر لا يعلم تحريم القتل، ويظن أن القتل لا بأس به. وهذا فيما يظهر في زماننا الآن بعيد جداً لكننا نقوله فرضاً. أما لو كان يجهل تحريم القتل بالنسبة لشخص معين فالضمان على القاتل؛ لأنه لا يجوز أن يُقدم على قتل إنسان حتى يعلم أنه مباح الدم. أَوْ أَمَرَ بِهِ السُّلْطَانُ ظُلْماً مَنْ لاَ يَعْرِفُ ظُلْمَهُ فِيهِ فَقَتَلَ، فَالقَوَدُ أَوِ الدِّيَةُ عَلَى الآمِرِ، وَإِنْ قَتَلَ الْمَأْمُورُ الْمُكَلَّفُ عَالِماً بِتَحْرِيمِ الْقَتْلِ فَالضَّمَانُ عَلَيْهِ دُونَ الآمِر، وَإِنِ اشْتَرَكَ فِيهِ اِثْنَانِ لاَ يَجِبُ القَوَدُ عَلَى أَحَدِهِمَا مُنْفَرِداً لأُِبُوَّةٍ أَوْ غَيْرِهَا فَالْقَوَدُ عَلَى الشَّرِيكِ، ..................... قوله: «أو أمر به السلطان» وهو الرئيس الأعلى في الدولة. قوله: «ظلماً» أي: أمر بالقتل ظلماً، بأن قال: يا جنود اقتلوا فلاناً، فقتلوه. قوله: «من لا يعرف ظلمه فيه» أي: وهم لا يعلمون أنه ظالم. قوله: «فقتل، فالقود أو الدية على الآمر» وهو السلطان، لا على المأمور، ولكن هذا القول فيه نظر، لا سيَّما إذا كان هذا السلطان معروفاً بالظلم؛ لأنه لا يجوز للمأمور أن يقدم على قتل من أمره السلطان بقتله حتى يغلب على ظنه، أو يعلم أنه مباح الدم، أما مجرَّد أن يقال له: اقتل فلاناً، فيقتله، فهذا فيه نظر؛ لأن الأصل تحريم الدماء، فلا يجوز الإقدام عليه إلا حيث يعلم الإنسان، أو يغلب على ظنه أن هذا التحريم قد زال، ولا سيما إذا كان السلطان معروفاً بالظلم، فإنه يتعين أن يتريَّث المأمور حتى يعرف أسباب الأمر، وهذه المسألة لها ثلاثة أقسام: الأول: أن نعلم أن السلطان غير ظالم، فهنا يجوز الإقدام على القتل. الثاني: نعلم أنه ظالم، فهنا لا يجوز تنفيذ أمره؛ لأنه لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق. الثالث: أن نجهل الأمر، ولا ندري هل هو مباح الدم، أو محترم الدم، فهذه المسألة فيها خلاف، فالمذهب: أنه يجوز تنفيذ أمر السلطان؛ لأن الأصل في السلطان المسلم أنه لا يستبيح قتل مسلم إلاّ بحقه. والقول الثاني: لا يجوز، حتى نعلم أنه مباح الدم. قوله: «وإن اشترك فيه اثنان لا يجب القود على أحدهما منفرداً لأبوة أو غيرها، فالقود على الشريك» لو اشترك في القتل شخصان بحيث لو انفرد أحدهما لم يجب القتل عليه، فالقود على الشريك، وعلى الثاني نصف الدية. وقوله: «لأبوة أو غيرها» مثاله: لو اشترك أب وأجنبي في قتل الولد، فالأجنبي يقتل بالولد، والأب لا يقتل بولده كما سيأتي ـ إن شاء الله ـ في القصاص، فالقتل هنا اجتمع فيه سببان: أحدهما: يثبت به القود، والثاني: لا يثبت به القود، فيكون القود على الشريك، والثاني لا قود عليه؛ لوجود المانع وهو الأبوة، وأما الأجنبي فلا مانع في حقه فينفذ فيه القود، فإذا نفَّذنا القصاص على الأجنبي فإن الأب يكون عليه نصف الدية؛ لأن الدية تتبعض، والقصاص لا يتبعض. وقوله: «أو غيرها» كالإسلام في قتل الكافر، فلو اشترك مسلم وكافر في قتل كافر، فمعلوم أنه لا يقتل المسلم بالكافر، فالكافر يجب قتله، والمسلم عليه نصف الدية. وكذلك رقيق وحر اشتركا في قتل رقيق، فالحر لا يقتل بالرقيق، والرقيق يقتل به، ففي هذه الحال يقتل الرقيق ولا يقتل الحر، ولكن عليه نصف ديته، أي: نصف قيمته. وكذلك لو اشترك عامد ومخطئ في قتل إنسان، فعلى العامد القتل، وعلى المخطئ نصف الدية، مثال ذلك: رجل تعمد قتل إنسانٍ، وآخر رمى صيداً، فأصاب هذا الإنسان فمات بهما، فهنا يقتل العامد، ولا يُقتل المخطئ، هذا ما مشى عليه الماتن. وأما المذهب فإنه إذا اشترك عامد ومخطئ، فإنه لا قصاص عليهما؛ لأن جناية أحدهما لا تصلح للقصاص وهي الخطأ، ولا نعلم هل مات بالخطأ أو بالعمد، وحينئذٍ نرفع حكم القصاص، أما لو اشترك أجنبي وأب في قتل ولده، فإن الجناية صالحة للقصاص، وامتنع القتل في الأب لمعنى يختص به، وهو الأبوة؛ فلهذا نقتص من الأجنبي دون الأب. والماتن رحمه الله لم يفرق بين الصورتين، فالصواب لأن القتل في كلا الصورتين لم يتعين فيمن يثبت عليه القصاص، فانتفى القصاص فيه. فهذه المسألة فيها ثلاثة أقوال: الأول: تبعض الحكم، فيجب القصاص على الشريك الذي تمت فيه شروط القصاص، دون من لم تتم فيه شروط القصاص، وهو ما مشى عليه الماتن. الثاني: التفصيل بين ما إذا كان ذلك لقصور في السبب، أو لمعنى يختص بالقاتل، فإن كان لمعنى يختص بالقاتل وجب القصاص على الشريك، وإن كان لمعنى يختص بالسبب لم يجب على الشريك، وإنما تجب الدية وهو المذهب. الثالث: أنه لا قصاص مطلقاً حتى على من شارك؛ لأن القتل اشتبهنا فيه، هل وقع ممن يمكن القصاص منه، أو ممن لا يمكن القصاص منه؟ فَإِنْ عَدَلَ إِلَى طَلَبِ المَالِ لَزِمَهُ نِصْفُ الدِّيَةِ. قوله: «فإن عدل إلى طلب المال لزمه نصف الدية» أي: لو اشترك اثنان في قتل شخص، أحدهما يجب عليه القصاص، والآخر لا يجب عليه القصاص، ولكن أولياء المقتول قالوا: لا نريد القصاص، فهنا الذي كان عليه القصاص يؤدي نصف الدية. فإن قال قائل: لماذا لا يؤدي الدية كاملة؛ لأنه لو لم يؤد الدية يُقتل، فهذه الدية عوض عن نفسه، فما الجواب؟ الجواب: أن نقول: لا؛ لأننا إنما قتلناه من أجل تعذر تبعض القتل؛ لا لأن نفسه كلها مستحقَّة، لهذا إذا عدل إلى المال لزمه نصف الدية. |
|
|
|